أصنام الدراما: أسامة أنور عكاشة!
ترددت كثيرا قبل الكتابة في هذا الموضوع، ببساطة شديدة لأنه وسط الإحتفاء المبالغ فيه بالمسلسلات القديمة، للكاتب الراحل: أسامة أنور عكاشة، من جميع الأطراف، مثقفون، نخبة، أو غيرهم، ستشعر بالحيرة، بل ستبدأ في التشكيك بذوقك الخاص، وفي النهاية ستلتزم الصمت المطبق حتي لا يتهمك الآخرون بالجنون والإلحاد..!
كعادتي، لا أستمر بالصمت المطول، قررت أن أخرج عن الجموع والآلاف المؤلفة المسبحة بحمد الكاتب "أسامة أنور عكاشة"، وقررت تسخير منبري الصغير الذي لا يتابعه أحد لأنفث عن غضبي، بالتقدير المبالغ فيه والغير مستحق لهذا الرجل، الذي سيطر علي الدراما وقطاع الانتاج لثلاثة عقود، لسبب غير مفهوم، وبجودة درامية "متوسطة"، يراها أي كفيف!
امتدت أعمال الكاتب الراحل منذ نهايات السبعينيات، انتهاءا بآخر أعماله في 2009، "المصراوية" الجزء الثاني، والحقيقة أن أعماله كلها تتشابه، تتشابه في صوت الشخصية الواحد، هل تتذكر مشاهد العميل "سميث" في فيلم "الماتريكس" حيث كان يضع يده بداخل أجساد شخصيات الماتريكس، فيستنسخ نفسه؟ هكذا هم أبطال "عكاشة"، كلهم "نسخ ولصق" من شخص عكاشة نفسه، لا فارق بينهم علي الإطلاق.
لدي عدة ملاحظات علي دراما "عكاشة"، والتي قد يري البعض أنها تطاولا علي القيمة والقامة، لكنني سأضعها علي أية حال، وسأتقبل النقد علي أية حال، لأن عكاشة تقريبا لا ولم ولن ينتقده أحد، وأنا لا أفهم السبب، ولا أستوعبه علي الاطلاق!
الملاحظة الأولي: المط الشديد والتطويل الأطول!
رحمه الله أسامة أنور عكاشة، كان من رواد المط في المسلسلات، وأحد رواد مدرسة الثلاثين حلقة، ومط الأحداث بالعديد من اللالزوميات الغير معقولة، مثال علي ذلك: خمسة أجزاء من ليالي الحلمية، خمسة أجزاء، الحقيقة قد حاولت مشاهدة جزء واحد منها، فشلت فشل ذريع، ايقاع الدراما ليس "واقعا" بل هو غير موجود، فكرة المسلسل تتلخص في جزء، جزئين بالكثير، لكن ليست خمسة أجزاء.
بوستر ليالي الحلمية |
قد أكون أحكم علي ايقاع المسلسل من منطلق ايقاع درامتنا السريع نسبيا اليوم، لكن كمقارنة سريعة، دعنا نقارن "رأفت الهجان" الجزء الأول علي الأقل، بالجزء الأول من ليالي الحلمية، وتعاون "يحيي العلمي - صالح مرسي" أمام تعاون "اسماعيل عبد الحافظ - عكاشة"، الكفة بالقطع ستميل ناحية "الهجان"، حيث الايقاع السريع، رغم امكانيات التصوير المتواضعة، ومحدودية تنفيذ المسلسلين بإمكانيات قطاع الانتاج الضائعة.
الملاحظة الثانية: لا صوت للشخصيات!
الملاحظة الثانية علي أعمال "عكاشة" الدرامية، أنه لا شخصية قد تمت كتابتها، تحظ بصوت خاص بها، الجميع يلقي بالحكم والمواعظ، ويتحدث في السياسة كأنه "مكرم عبيد"، ويلقي خطابات حماسية، في كوكب أسامة أنور عكاشة، كلهم مثقفون، لا أستثني أحدا! كلهم تأثروا بالناصرية، والماركسية، وأحلام المدينة الفاضلة، كلهم يحنون للماضي، كلهم يتنفسون ويتكلمون بلسان واحد فقط، لسان المؤلف!
من تتر ضمير أبلة حكمت |
"زينهم السماحي" يتحدث ك"فتح الله الحسيني"، وكلاهما يشبه "حسن النعماني" الذي يشبه بدوره الدكتور "مفيد أبو الغار"، شخصيات ذات خلفيات اجتماعية، وتعليمية وسياسية مختلفة، جميعها تتحدث بنفس الصوت، ولديها نفس الأفكار، ونفس القناعات، ونفس ردود الأفعال!
المؤلف لم يبذل جهدا في خلق شخصيات مختلفة، كلها متشابهه، كلها تمتلئ بالرصانة والحكمة والحنكة، كلها "اسطمبة واحدة".
الملاحظة الثانية: ملائكة وشياطين!
تعلمنا في الصبا أن الأبيض أبيض، والأسود أسود، حقيقة الحياة أنها مليئة بدرجات الرمادي، ولا أحد شرير علي طول الخط، لكن في كوكب "عكاشة"، الشرير شرير مطلق، علي طول الخط، والخير خير مطلق علي طول الخط!
أبطال عكاشة هم فرسان، يشبهون جميعا "دون كيشوت" يحاربون طواحين الهواء، وتصرفاتهم ونهاياتهم الدرامية غير معقولة، ف"حسن النعماني" هدم الفيلا التي كان يعمل عليها، و"مفيد أبو الغار" ظل معتصما أمام الجرارات حتي تم هدم فيلته الأثرية، و"فتح الله الحسيني" تنصل من مسؤولياته كعمدة وخرج ليتوحد في الجبال! حتي "حكمت هاشم" تتصرف وكأنها ملاك يسير علي قدمين! لم هذه المثالية المبالغ فيها؟ لا أحد يدري!
من مسلسل أبو العلا البشري |
أبرز مثال علي الأبطال "الدون كيشوتيين" هو "أبو العلا البشري" من مسلسل "رحلة السيد أبو العلا البشري - أبو العلا 90"، الذي وبعد رؤيتي للمسلسلين مرات عدة تأكدت أن شخصية هذا الرجل ليست إلا "راجل حشري"، يضع أنفه في كل شئ، ويحاول إصلاح الكون بأية وسيلة ممكنة، شخصية مكانها حرفيا الكتب الخرافية، لا وجود لها علي أرض الواقع.
علي الجانب الآخر: "فضة المعداوي" شريرة لا رادع لها، و"دولت - الشهد والدموع" ستصاب بالشلل في النهاية، نهاية كلاسيكية تليق بمسرحية ل"يوسف وهبي" لا بمسلسل يعرض في تليفزيون مصر، نهاية تشفي غليل جمهور يتعاطف مع شخصية أخري غير سوية، وهذا ما سينقلنا للنقطة التالية.
الملاحظة الثالثة: شخصيات غير سوية!
ملاحظة تأتت لي من واقع مشاهدتي للمسلسل الأشهر "الشهد والدموع"، والملحمة "النكدية" التي أبدعت فيها "عفاف شعيب" ولا تزال تجترها حتي يومنا هذا في أدوارها الجديدة.
الغل علي وجه أحمد شوقي رضوان في الشهد والدموع |
فكرة المسلسل باختصار، تدور حول أخين، أحدهما أحمق، طيب "بزيادة"، كعادة "عكاشة"، وأخ شرير ذكي "سيصاب بالخرف تحقيقا للعدالة بنهاية المسلسل وسيعقه أولاده"، الشرير سيأكل حق الطيب في الميراث. الشرير سيربي أولاده في رغد العيش، وأرملة الطيب "عفاف شعيب"، ستربي أولادها علي الحقد، وترضعهم الغل في كل لقمة، ستربي أبناءا معقدين نفسيا، وسيظهر البطل في العمل "أحمد حافظ رضوان"، كشخص معقد، يثأر من عمه "الشرير" بخداع ابنة عمه، التي لا ذنب لها فيما اقترف أبوها ال"شرير".
هل تقديم "زينب" كأم مضحية أمضت زهرة شبابها في تربية الأولاد، ينفي كونها شخص معقد نفسيا؟ لا، هل رفع أحمد لمناص الشهداء والصديقين في المسلسل، ينفي كونه وغدا يكسر قلب "ناهد حافظ رضوان"؟ لا...
دولت الشريرة وشوقي رضوان الشرير - الشهد والدموع |
مثال آخر علي الشخصيات غير السوية نفسيا، التي أصر "عكاشة" علي تقديمها لنا، هو نموذج "بشر عامر عبد الظاهر"، أتفهم ارتباك بشر النفسي لنشأته في عالم بين الشرق والغرب، وتمزقه بين واقعه وأصله، لكن الذي لا أتفهمه، علاقته المرتبكة ب"عايدة"، تمنعه عليها بشكل مبالغ فيه، مثال آخر علي الارتباك النفسي، والاضطراب الهوسي هو شخص "عبد الفتاح ضرغام"، وهوسه المبالغ فيه ب"عايدة"، وغيرهم وغيرهم...
الملاحظة الرابعة: الناصرية الأوفر!
المتابع للشأن العام، يعلم تمام العلم، أن "حسني مبارك" وحاشيته، كانو يعملون قدر جهدهم لمحو آثار عهد السادات السينمائية والدرامية، تماما كما ظهرت بعض الأفلام في عهد السادات لانتقاد عهد عبد الناصر، مثل "الكرنك" - "القطط السمان"، وغيرهم.
أرابيسك |
"عكاشة" وهو الناصري الكبير، ومدمن حنين للماضي بشكل "أوفر" وكبير مشجعي ثورة 1952، و"ماركسي اشتراكي" قديم، تخصص في بث رسائله الفكرية، بناءا علي ذلك، احتضنته ادارة "مبارك" والموافي القديم "صفوت الشريف" وفتحت له الاستديوهات، وأنتجت له المسلسل تلو المسلسل، في وضوح فج، سبابا في عهد السادات والانفتاح، وتغزلا في عبد الناصر، رغم الانتقادات الواسعة لعهده.
من واقع قراءاتي في روايات "عكاشة"، التي لم أتبحر كثيرا فيها، فقط قرأت "جنة المجنون"، "سوناتا لتشرين" و منخفض الهند الموسمي"، لم أستمتع كثيرا، الروايات ليست بالرديئة، ولا بالممتازة، أعمال تليق أكثر بكاتب سكندري، ولن تشتهر كل هذه الشهرة لو لم يحظ "عكاشة" بكل هذه الدعاية المكثفة ولا الامكانيات الكبيرة التي حرم منها الكثيرين.
---------------------------------------------------------------------------------------
انتهت ملاحظاتي حول دراما "عكاشة"، حصيلة مشاهدات طويلة لأعمال أطول، لكنني دوما أري أنه كان من باب أولي أن يحظ عملاق التأليف "محسن زايد"، بتلك الإمكانيات التي حظي بها عكاشة، أو غيره من المؤلفين الكبار، لكن لأسباب غير معلومة، وعلاقات لا مبرر لها، حظي عكاشة ببقعة ضوء طوال ثلاثين عاما، لكن، هو الحظ.
"عكاشة" هو الصنم الذي لم يجرؤ أي ناقد علي الاقتراب منه، سواء في حياته، أو بعد مماته، التقدير المبالغ فيه الذي حظي به، غير مفهوم، كما أسلفت يجعلك تتشكك في ذوقك الخاص، وتتسائل، هل أنا أحمق بالفعل؟ هل أنتم ترون ما لا أراه؟
السيناريو الحقيقي، والقصة الحقيقية يجب أن تحظي بدم ولحم، وأعصاب، شخصيات الدراما، هي شخصيات حقيقية لكن علي الورق، المؤلف يجب أن يتوحد مع كل فرد منها، يفكر بعقل شخصيته لا عقل المؤلف، يجيب وينفعل ويتحدث من منطلق شخصيته، ويجرد نفسه من قناعاته وأفكاره وثقافته، وابداع المؤلف يتلخص في هذه النقطة.
عن نفسي أعتبر أن أعظم أعمال "عكاشة" هو مسلسل "موجة حارة" المأخوذ عن روايته "منخفض الهند الموسمي"، الرواية كتقييم لا تستحق 5 من 10 من وجهة نظري المتواضعة، لكن المسلسل قد يستحق العلامة الكاملة وأكثر علي أقل تقدير.
السر الأوحد وراء المسلسل المتكامل، هو السيناريو، الذي منح كل الشخصيات لحما ودما، السر باختصار أن السيناريست "مريم نعوم" قد خلقت منها عالما متكاملا، ينبض بروح مترابطة، ويجعلك متلهفا متوحدا مع كل شخصية علي حدة، وهو ما فشل "عكاشة" في تحقيقه في تاريخه الدرامي بأكمله، مع كامل احترامي له بالطبع.
لا أدري في النهاية متي أصبحت أعمال "عكاشة" بكل هذا القدر من التشابه، والكيتيشية، هل لأنه جرب ورأي أن مثل تلك الدراما الزاعقة هي "اللي بتجيبب مع الجمهور"؟ أم لأيمانه الحقيقي بأن ما يقدمه هو فقط الفن، ودونه الاسفاف؟ لا أدري الحقيقة، لكنني بكتابتي لهذه الكلمات القليلة، أزحت عن كاهلي عبئا كبيرا، حتي وان بدت محاولاتي العبثية أشبه بإلقاء قطع الحجارة في البحر، يكفي أنها صنعت موجة صغيرة، في ناظري.
ريم.
10 مايو، 2020.
فيصل
قرأت تلك المقالة مرات عدة ولا آمل من قرأتها بل أعود إليها وكأني أقرأها لأول مرة ، وبالفعل اعتقد أن أسامة أنور عكاشة لم يجري معه ما يمثله تعبير "القاء الحجارة فى البحيرة الراكدة" ، لأنه إذا كان هناك أحد قد خالف الرأى الثابت وسار عكس التيار وخرج على العرف بأن أسامة أنور عكاشة من أساتذة الدراما التلفزيونية وقال عكس ذلك ، لاتهمه الآخرون بانعدام الذوق.
ردحذفالآن يعرضون له مسلسلا يدعى "وأدرك شهريار الصباح" وأنه من نوع الملهاة بل ومقتبس عن مسرحية "ترويض النمرة" لويليام شكسبير ، وسأكذب ان قلت أنني ببعض من حبكته أو فصول قصته لكن اعتقد أن به بعض من الأشياء التي قلتيها فى ملاحظاتك. حيث أن قصتها :- "تعيش الفتاة (اسمها مشيرة وتقوم بدورها الممثلة "نورا") في أزمة نفسية بسبب علمها بزواج ابيها من امراة أخرى، فتفقد الثقة في كل الرجال ولكن ابيها يحاول اثبات العكس عندما يضع أمامها شاب (وهو عاطف الرملي الذي يقوم بدوره "يحيى الفخراني")، على أنه مريض نفسي ساذج أضاع ثروة ابيه في التبذير والجري وراء الملذات، لتتطور العلاقة بينهم، في إطار كوميدي.
ردحذفأعتقد أن هذا يدور فى فلك الشخصيات غير القوية الذي كنتي تحكين عنه فى ذلك المقال.