الملك يول براينر، وأنا!





ربما تعرف وجهه المألوف، رأسه الحليقة، عينيه الحادتين، هو الرجل الذي جسد  دور رمسيس في الوصايا العشر، والملك البربري الشرس في "أنا والملك"، كريس لارابي في "العظماء السبعة"، مئات الأدوار، والعديد من الأفلام، وحياة مثيرة للجدل، رجل يستحق أن يطلق عليه بكل صدق "الرجل الغامض بسلامته".

ملامح "يول" لم تش بالكثير حول أصوله، في وقت من الأوقات ادعي بأنه نصف سويدي-نصف ياباني، وادعي بأنه ولد في جزيرة "سخالين" في سيبريا، جسده الممشوق وهامته المرتفعة ساعدتاه في أن يصبح لاعب ترابيز في مطلع شبابه، وعشق الحرية، انضم لبعض الوقت لغجر رحل في فرنسا، ثم رحل إلي الولايات المتحدة الأمريكية لدراسة الدراما والتمثيل، الأمر المؤكد الذي أكده أحد أبناءه في كتاب يحكي سيرته الذاتية، أنه ولد لأم وأب يحملان الجنسية الروسية، في مدينة فلاديفوستوك الروسية، أسمته أمه "يولي" تيمنا بجده لأمه، ثم ما حدث بعد ذلك دراما صرفة، حيث هجر الأب العائلة، وانتقلت الأم مع يول وشقيقته لمنشوريا، ومنها لباريس، حيث سيحصل الطفلان علي تعليمهما.




بالطبع باريس مدينة الفنون، ويول لم يتوان عن تلبية نداء الفن، ترك الدراسة حيث بدأ بالتسكع مع الغجر الروسيين في ملاهي باريس الليليلة، ورشاقته جعلته أحد أعضاء سيرك دي ايفيه الفرنسي، صادق العديد من الفنانين في هذا العصر، وتناثرت شائعات هنا وهناك أنه كان صديق ل"جان كوكتو" الفيلسوف الشهير، بل وأحد موردي مخدر الأفيون له.

في العام 1941، انتقل يول إلي نيويورك لدراسة الدراما، واستمر في عمله في السيرك في جولة طويلة عبر الأراضي الأمريكية، ثم افتتح مهنته الحافلة بدور "فابيان" في مسرحية "الليلة الثانية عشرة" لويليام شكسبير، في أحد مسارح نيويورك.

مقدمة طويلة، لكنها ضرورية، للتعرف علي ذلك الفنان الاستثنائي، الذي لم ولن يتكرر، موسيقي،  مخرج، ممثل، مصور فوتوغرافي محترف  ولاعب ترابيز في السيرك، أشياء كثيرة، ومواهب أكثر قلما تجتمع في شخص واحد. أخرج العديد من العروض التليفزيونية، ومثل العديد من المسرحيات، فاتحة الخير علي "براينر" كانت بأداءه مسرحية "الملك وأنا" في أحد مسارح برودواي، في خمسينيات القرن الماضي، حيث أدي دور الملك "مونجوت" ملك "سيام – تايلاند حاليا" في أحداث مستوحاة من الحقيقة مغلفة في اطار موسيقي-رومانسي، وقصة حب بين الملك، ومربية استقدمها لأطفاله من انجلترا، حظيت المسرحية بنجاح ساحق، وتحولت لفيلم موسيقي بنفس الاسم، وبنفس البطل، لعب براينر دور الملك مونجوت قرابة الأربعة آلاف مرة، وفاز بجائزتي "توني" و"أوسكار" عن نفس الدور.




شاهدت العديد من الأعمال ل"براينر"، شاهدت له "العظماء السبعة" وهو أحد جواهر هولييوود، فيلم مقتبس بشكل مباشر عن أحد أعمدة السينما اليابانية للمخرج الكبير "أكيرا كوروساوا"، تم اقتباس الفيلم بحرفية شديدة، مع مراعاة الفروق الثقافية، وتغيير طبيعة البيئة، حيث دارت أحداث الفيلم الأصلي في الريف الياباني، وحمل عنوان "الساموراي السبعة"، فتحولت الأحداث إلي الغرب الأمريكي في زمن رعاة البقر وانعدام سيادة القانون، ولعب "براينر" دور "لارابي" في الفيلم الأمريكي، حيث كانت ملابسه وقبعته المتميزين، علامة علي براعته في الدور، كما انغمس في أداء الدور، كأنه راعي بقر أصيل، وولد في الغرب الأمريكي المتوحش.

لا يعرف الجميع أن مسلسل "ويست وورلد" الشهير لصانعه "جوناثان نولان" أنه مستوحي من فيلم أمريكي قليل الشهرة صدر في سبعينيات القرن الماضي، وفي هذا الفيلم، أصر صناع العمل علي استحضار شخصية "لارابي" مجددا متمثلة في جعل براينر يؤدي الشخصية مرة أخري، بنفس الملابس، بنفس الحركات ونفس الهيئة، لم ينبس براينر طوال الفيلم سوي بكلمة أو كلمتين، حيث أنه أدي دور "الروبوت" الذي يخرج عن طوره، ويثور علي الجميع، ويقتل الجميع. الفيلم نفسه لم يكن شديد الشهرة، او شديد الأهمية، فقط فيلم متوسط المستوي، تميزه بأنه احتوي علي مشاهد مبكرة من الجرافيكس والخدع البصرية، صور تمت توليدها بواسطة الكومبيوتر، وهو ما كان ابتكارا وقتها، حيث لم يتم استخدام أيا من هذه الحيل في أية أفلام في هوليوود سوي بعد فيلم "ويست وورلد" سوي بعقد كامل، وتجلي هذا في حقبة الثمانينيات.



ما بين هذا وذاك، أدي "براينر" العديد من الأدوار، مستغلا سحره الغامض، عينيه القويتين، ملامحه العنيفة، كل هذا ساعده علي تجسيد شخصيات متعددة، في وجهة نظري الشخصية أن سحر "براينر" قد تغلب علي سحر كل شخصية قام بها علي الشاشة الفضية، لكن لم أشعر بالانزعاج مطلقا، كل مرة أراه فيها علي شاشة كومبيوتري، أشعر بالسعادة، وأتمني لو عرفت هذا الشخص عن قرب، أو عاصرته في وقته، براعته الأكبر، في استخدامه لأداءه، نبرات صوته، أداءه المسرحي غير المفتعل، علي عكس أبناء جيله في هوليوود، سحر وكاريزما عجيبة، جعلتني أتعاطف بشكل أو بآخر مع "رمسيس" ضد "موسي" في الوصايا العشر، جعلتني أبكي بوفاة الملك "مونجوت" بنهاية "الملك وأنا"، أتعاطف مع غيرته علي "آنا" في فيلم "آنستازيا".

ملمح آخر مضحك من حياة "براينر"، في وقت تصوير فيلم "الوصايا العشر" وهو بالمناسبة أحد أضخم الانتاجات السينيمائية في زمنه، كان يلعب دور "رمسيس" أمام "تشارلز هيستون – موسي"، وقتها هيستون كان محبوب النساء في أمريكا، أغلب مشاهد الثنائي كانت مشتركة، وبملابس الفراعنة، خشي براينر من مقارنة جسده مع جسد "هيستون" الضخم، فأمضي شهورا قبل تصوير الفيلم برفع الأثقال، حتي يظهر بمظهر أفضل من زميله، لزماته الدرامية أيضا تعلق في الذاكرة بشكل كبير، خرجت من فيلم "الوصايا العشر" بلازمة "رمسيس" الشهيرة التي رددها طوال الفيلم، وختم سيسيل دو ميل الفيلم بها So Shall be written, So Shall be done. ولازمته الشهيرة في "الملك وأنا"، واسمحوا لي أن أكتبها بالعربية حيث كان ينطق "اكسيتيرا اكسيتيرا" بدلا من Extra Extra  للمربية "آنا ليونويز"، وغيرها وغيرها..




عاش "براينر" حياة حافلة، تزوج أربعة مرات، وأنجب ثلاثة اطفال، يتحدث الفرنسية، الانجليزية والروسية بطلاقة، ذكر في أحد حواراته الصحفية، أنه يتحدث عادة مع زوجته "كاثي لي – زوجته الأخيرة حتي توفي بالمناسبة" بالفرنسية حين يتعلق الموضوع بالفنون، وبالانجليزية في أية مواضيع أخري، وبالمناسبة لم يكن أصلعا، وهناك العديد من الصور له ورأسه مليء بالشعر، لكنه كان يفضل حلاقة رأسه لإضفاء الغموض عليه، ومدافع شرس عن حقوق اللاجئين، وتحدث عدة مرات أمام الأمم المتحدة.

في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي، اكتشف "براينر" إصابته بسرطان الرئة، وأبقي الأمر سرا عن أعين الصحافة، وبعد بضعة سنوات فضل الرحيل في صمت، قبل أن يرحل، قام بتصوير إعلانا توعويا، أوصي بشدة أن ينشر بعد وفاته، قال فيه: "الآن وقد رحلت، دعني أخبرك: لا تدخن! مهما حدث في حياتك، لا تدخن. لو بإمكان الأيام أن تعود، لن أدخن ثانية، ولن نتحدث عن أية سرطانات، أنا مؤمن بذلك، الناس لا تعلم حقيقتي، ولن يقوموا بمعرفتي مهما حدث"، شاهدت المقطع بنفسي علي "يوتيوب" والعديد من التعليقات أخبرتني بأنه بفضل هذا الإعلان، توقف العديد من الشباب عن التدخين، بفضل "براينر" وحده.

شاهد اعلان "براينر" التوعوي من هنا:



بعيد وفاة "براينر"، قام صناع السينما في هوليوود بإعادة عدة أفلام قام ببطولتها، منها "الملك وأنا" و"أنستازيا" و"الوصايا العشر"، لكن وكالمتوقع، لم تلق هذه الأفلام النجاح الساحق الذي منحه لها براينر، الذي بفضل سحره وأداءه الإستثنائي، منح كل هذه الأفلام الخلود في عالم الفن، عاش كأسطورة، ورحل كأسطورة، وبقي في سطور التاريخ، وفي قلوب محبيه..للأبد...!

 

ريم

15 مايو، 2021  


تعليقات

إرسال تعليق

تعليقك يسعدني..يا أفندم!

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

عربية أتاري...

كنوز مدفونة: صياد الطيور - جورج وسوف "الجزء التاني"

نادية الجندي....سور الصين العظيم..!